الديار : عجز الموزانة يدكّ مضاجع الليرة?
والعقوبات ‏والسوق السوداء ترفع سعر الدولار
‎الصفقة العراقية ــ اللبنانية رهينة المزاج والرضى
الأميركي على حكومة الكاظمي‎ ‎

وطنية - كتبت صحيفة " الديار " تقول : من المعروف في المعادلات الجيوسياسية، أنه من غير الضروري القيام بعمليات عسكرية ‏لزعزعة كيان مُعيّن، إذ يكفي ضرب عملته لكي تعمّ الفوضى في هذا البلد. هذا الواقع ‏يُمكن ملاحظته في البلدان التي تشهد إنهيارًا في عملاتها المحلّية مثل فنزويلا والأرجنتين ‏وسوريا وإيران ولبنان. ولتنفيذ هذه الإستراتيجية يكفي حظر دخول العملة الصعبة إلى البلد ‏المعني مما يجعل كلفة الإستيراد أكبر بحكم الطلب الكبير على العملة الصعبة والعرض ‏الكبير من العمّلة المحليّة. وتتبع الولايات المُتحدة الأميركية مبدأ العقوبات الإقتصادية على ‏الدول التي تُعارض سياساتها وذلك بهدف تطويع القرار السياسي، مُستخدمة مبدأ ‏العقوبات "الذكية‎".‎


العقوبات الأميركية
العقوبات الاقتصادية هي ممارسات قديمة تعود إلى العام 432 قبل الميلاد حيث قام ‏الإغريقيون بفرض عقوبات تجارية على ميغارا جارة إغريقيا وذلك بهدف إجبارها على تغيير ‏سلوكها السياسي‎.‎
المفهوم النظري للعقوبات الإقتصادية، وضعه البلجيكي هنري لافونتين في العام 1982 من ‏خلال الحديث عن "عقوبات سلمية" من دون حروب عسكرية. وفي العام 1919، كان النداء ‏الشهير للرئيس الأميركي ويلسون الذي دعا المجتمع الدولي إلى الإمتناع عن التبادل ‏التجاري أو التواصل مع الأمم المُتمرّدة على السيادة الدولية. وفي العام 1945، إعتمدت ‏الأمم المُتحدة مفهوم العقوبات في الميثاق التأسيسي لها ووضعت قرار فرضها ورفعها ‏في يد مجلس الأمن. ويُخبرنا التاريخ أن العديد من العقوبات تمّ فرضها على دول ‏‏"مُتمرّدة" مثل إيطاليا في العام 1935، وجنوب أفريقيا في الثمانينات والعراق في ‏التسعينات، وأنغولا في أواخر التسعينات‎?‎
إلا أن نقطة التحوّل كانت في العام 2001 مع الهجومات الإرهابية على مركز التجارة الدولية ‏في الولايات المُتحدة الأميركية. نقطة التحول الإستراتيجية هذه دفعت بالولايات المُتحدة ‏الأميركية إلى ملاحقة الإرهاب وفرض إجراءات قانونية بهدف مكافحته في أكثر من 180 ‏دولة في العالم. ومن بين هذه الإجراءات تجميد الأصول وتقييد حركة الإرهابيين ولكن أيضًا ‏حركة مناصريهم. هذه القدرة الأميركية نابعة من إقتصادها الذي يُشكّل أكثر من ربع ‏الإقتصاد العالمي ولكن أيضًا من هيمنة الدولار الأميركي على التجارة العالمية‎.‎


العقوبات الأميركية على كوبا منذ ستينات القرن الماضي، جعلت الزمن يتوقّف في هذا ‏البلد حيث إنتقد قداسة البابا يوحنّا الثاني فرض هذه العقوبات على كوبا نظرًا إلى الضرر ‏الكبير على المجتمع كذلك إنتقد العقوبات على العراق نظرًا إلى الضرر على الأطفال ‏العراقيين‎.‎


وقد برهن عالم الإجتماع النروجي يوهان غالتوغ من خلال دراسة علمية أن العقوبات ‏الشاملة لا تُعطي بالضرورة المفعول المطلوب منها نظرًا إلى أن الإنسان يتأقلم مع ‏العقوبات. وذهب أبعد من ذلك بطرحه فكرة أن المُجتمع (موضوع العقوبات) يُمكن أن ‏يلتف حول قياداته في زمن العقوبات مما يُعطي مفعولاً عكسياً، مُضيفًا أن "الطبيعة ‏الجماعية للعقوبات الإقتصادية تجعلها تضرب الأبرياء سواسية مع الإرهابيين‎".‎


الإستراتيجية الأميركية أخذت هذا الواقع بعين الإعتبار وطوّرت مفهوم العقوبات إلى ‏مفهوم جديد أسمته العقوبات الذكية‎ (Smart Sanctions ) ‎والذي ينص على إستهداف ‏أشخاص وكيانات (شركات، جمعيات، بلديات?) بدل إستهداف البلد بالكامل. لكن يبقى ‏السؤال الأساسي: هل هذه العقوبات فعّالة أكثر من العقوبات الشاملة؟


وشهد العالم منذ مطلع القرن الحالي إرتفاعًا ملحوظًا في فرض العقوبات خصوصًا من ‏قبل الولايات المُتحدة الأميركية. وما القوانين التي أصبح المواطن العادي في العديد من ‏الدول في العالم يعرفها بالإسم إلا ترجمة لهذه العقوبات على مثال قانون قيصر. ويتأثر ‏لبنان بالعديد من القوانين والعقوبات الأميركية التي تطال حزب الله، لكن أيضًا بالعقوبات ‏المفروضة من خلال قانون قيصر ومن خلال قانون ماغينتسكي. ويُلاحظ من خلال ‏تصريحات بعض المسؤولين أن هناك لوائح جديدة بأسماء لبنانيين (سياسيين ورجال أعمال) ‏ستُبصر النور في الأسابيع المقبلة وقد تُعقّد الحياة السياسية والإقتصادية والنقدية اللبنانية‎.‎


العقوبات والأزمة اللبنانية
الأزمة التي يعيشها لبنان هي نتاج للفساد المُستشري منذ عقود لكن أيضًا نتاج الصراع ‏الإيراني - الأميركي والسوري - الأميركي. فالحرب الطاحنة بينهم وصلت إلى جبهة ‏المصارف اللبنانية حيث تتهم واشنطن بعض المصارف بخرق العقوبات (عن معرفة أو غير ‏معرفة) على النظام السوري وعلى حزب الله. وبالتالي تمّ فرض نوع من الحظر على قدوم ‏الدولارات إلى لبنان وبالتحديد من باب الودائع والإستثمارات والتحاويل. ولم تكن الإجراءات ‏التي قامت بها الحكومة اللبنانية الحالية على قدر مستوى الحظر الأميركي حيث أوقفت ‏المصدر الوحيد المُتبقّي لها من الدولارات أي سندات اليوروبوندز‎.‎


الهلع المصرفي الذي أصاب المودعين جعلهم يهرعون إلى المصارف بهدف سحب ‏ودائعهم وهو ما جعل الوضع يتأزم أكثر وأصبحنا نفتقد الدولار. وأخذ سوق الصيارفة يزداد ‏حجمًا مع زيادة الطلب من قبل المواطنين والتجار على الدولار الأميركي ومع إمتناع ‏المصارف عن إعطاء الدولارات. وبرز إلى الواجهة ضعف قدّرة المصرف المركزي على تلبية ‏هذا الطلب الهائل من الدولار والذي بدأ يستنزف الإحتياطي من العملات الأجنبية‎.‎


اليوم أصبح الدولار يعيش على وتيرة الصراع السياسي الداخلي ولكن الصراع مع الولايات ‏المُتحدة الأميركية. وتُسيطر سوق سوداء على سعر صرف الدولار، ليس من ناحية الحجم بل ‏من ناحية التأثير على التجار الذين يعكسون السعر مباشرة في أسعار السلع والبضائع. ‏وتعجز القوى الأمنية بغياب القرار السياسي عن محاربة هذه السوق حيث تُسيّطر ثلاث ‏ساحات على سعر صرف الدولار‎!‎


عمليًا، هناك قسم أساسي من المعاملات التجارية تتمّ على سعر الصرف الرسمي (1515) ‏وقسم أخر يشمل المواد الغذائية وبعض المواد الأولية للصناعة والزراعة (( 3800، والباقي ‏يتمّ على سعر صرف السوق السوداء‎.‎


فقدان الثقة في الإقتصاد، المصارف، والأداء السياسي يجعل من الدولارات التي يتمّ ضخها ‏من قبل مصرف لبنان تختفي بسرعة البرق. وبحسب توقعاتنا، هذه السوق قادرة على ‏إمتصاص أرقام كبيرة من الدولارات مع وفرة الليرة اللبنانية في الأسواق‎!‎


ضرب الليرة اللبنانية
الأخطر في الموضوع هو مساهمة كل اللاعبين بضرب الليرة اللبنانية مما يجعل من عودة ‏الدولار إلى السعر الرسمي أمراً مُستبعداً في ظل غياب إجراءات فعّالة. فالحكومة اللبنانية ‏التي ما زالت تُنفق على نفس وتيرة الحكومات السابقة، خلقت عجزًا بقيمة 4 تريليون ليرة ‏لبنانية في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام. هذه الأموال يتمّ تمويلها من قبل مصرف ‏لبنان الذي يضخّ نقدًا بقيمة 1.5 إلى 2 تريليون ليرة لبنانية شهريًا وذلك لتمويل هذا العجز ‏ولكن أيضًا لتلبية المواطنين والتجار الذي يُسارعون إلى إستبدال الليرة بالدولار الأميركي ‏في السوق السوداء حيث تتوقّف مسيرة الدولار في المنازل أو خِزانات التجار أو تذهب من ‏خلال السوق السوداء إلى وجهات أخرى. أيضًا هناك عدد من المواطنين الذين يقومون ‏بتحويل أجورهم الشهرية إلى دولارات وذلك بهدف الحفاظ على قيمتها على أن يُعاودوا ‏تحويلها إلى ليرة عند الحاجة‎.‎


وتُشير بيانات مصرف لبنان الواردة في التقرير الشهري‎ (Monetary Report ) ‎الى أن حجم ‏العملة الموضوعة بالتداول إرتفعت من 6.2 تريليون ليرة لبنانية في شهر تشرين الأول ‏‏2019 إلى 16.4 تريليون ليرة لبنانية في أيار 2020. هذا الإرتفاع له مفعول سلبي مُزدوج: ‏الأول ضرب سعر صرف الليرة والثاني زيادة الطلب على الدولار الأميركي وبالتالي إرتفاع ‏أسعار الإستيراد. من هذا المُنطلق يتوجّب معرفة أن هناك إستحالة الإستمرار بهذه الوتيرة! ‏وهذا الأمر يفرض عددًا مُعيّنًا من الإجراءات‎:‎


أولا - على الحكومة خفض الإنفاق الذي تُموّله من طبع العملة من مصرف لبنان! هذا الأمر ‏إلزامي وأكثر من ضروري لأن الإستمرار على هذه الوتيرة سيقضي على الليرة! أيضًا على ‏الأجهزة الرقابية ملاحقة التجّار الذين يرفضون قبول الدفع بالبطاقات المصرفية‎.‎


ثانيًا - على مصرف لبنان خفض تمويله للدولة بغضّ النظر عن ضغط الحكومة عليه ‏لتمويلها وإلا فإن العواقب على النقد ستكون كارثية‎.‎


ثالثًا - على المصارف التجارية، تحفيز المواطنين على إستخدام وسائل الدفع الأخرى وإعادة ‏وضع سقف للسحوبات النقدية بالليرة اللبنانية (بالتنسيق مع مصرف لبنان) وذلك لتخفيف ‏الطلب على الدولار الأميركي في السوق السوداء‎.‎


رابعًا - على المواطنين خفض الطلب على الدولار بحكم أن تجارة الدولار (في هذه الحالة) ‏هي تجارة خاسرة حتى لو حققوا أرباحًا إذّ أن إرتفاع الدولار ينعكس تلقائيًا في أسعار السلع ‏والبضائع‎!‎


الصفقة العراقية - اللبنانية
في هذا الوقت، زار الوفد العراقي المؤلّف من عدد من الوزراء والمسؤولين في الحكومة ‏العراقية لبنان بهدف البحث في العلاقات التجارية الثنائية وخصوصًا إستبدال المواد ‏الغذائية بالنفط. هذه الخطوة هي خطوة إيجابية إذا ما تمّت خصوصًا أن الإقتصادين ‏العراقي واللبناني هما إقتصادان يتكاملان ولا مُنافسة بينهما. إلا أن هناك معوقات قد تمنع ‏من الوصول إلى خواتم سعيدة‎:‎


أولاً - حاجة لبنان إلى المواد الغذائية والتي قد تمنعه على المدى القصير من تصديرها ‏ليس فقط إلى العراق بل إلى كل دول العالم‎.‎


ثانيًا - الشق اللوجستي المُتمثّل بنقل البضائع والسلع من لبنان إلى العراق والعكس ‏بالعكس حيث أن النقل البري قد يواجه بقانون قيصر وبالتالي قد يفرض نقلها عبر البحر مما ‏يجعل كلفتها أكبر‎.‎


ثالثًا - مُشكلة تكرير النفط العراقي إذّ أنه من المعروف أن قدرة تكرير النفط في العراق ‏هي بحدود الـ 800 ألف برميل يوميًا وهي بالكاد تكفي السوق العراقي. من هنا تُطرح ‏نظريتان: الأولى تتمثل بتطوير عدد من مصافي التكرير قيد الإنشاء مثل مصفاة كربلاء، ‏مصفاة الفاو، مصفاة الانبار، ومصفاة الكوت مما يسمح بزيادة النفط المكرر وبالتالي تزويد ‏لبنان. والنظرية الثانية تتمثل بإستيراد العراق للنفط المكرر من إيران وتصديره عبر البصرة ‏إلى لبنان. هذا الإحتمال الأخير محفوف بالمخاطر مع الضغط الأميركي المُتزايد على إيران‎.‎


على هذا الصعيد، لم تقم الحكومة اللبنانية بأية إتصالات مع الحكومة الأميركية للحصول ‏على إستثناءات خصوصًا في ما يخص العبور عبر سوريا، إلا أن التحليل يُشير إلى أن حكومة ‏الكاظمي المُرضى عليها أميركيًا قد تكون تحمل الضوء الأخضر الأميركي وهو ما قدّ يُشكّل ‏أوكسجين للبنان خصوصًا في ظل الظروف التي يعيشها‎.‎

تابعوا أخبار الوكالة الوطنية للاعلام عبر أثير إذاعة لبنان على الموجات 98.5 و98.1 و96.2 FM

  • خدمات الوكالة
  • خدمة الرسائل
  • تطبيق الوكالة الالكتروني
  • موقع متجاوب