وطنية - ألقى العلامة السيد علي الأمين كلمة في جناح مجلس حكماء المسلمين في معرض أبو ظبي الدولي للكتاب، بعنوان "الهوية والمواطنة- رؤية إنسانية"، فقال: "حاول الكثيرون من علماء الإجتماع والسياسة والقادة المصلحين الإجابة على سؤال كيف يجب أن تقوم العلاقة بين الهوية الدينية التي يكتسبها الإنسان من الإنتماء إلى دين، وهي هوية يطرأ عليها التعدد والاختلاف بتعدد الأشخاص الذين تختلف انتماءاتهم الدينية، ولا يكاد يخلو وطن من الأوطان، ولا شعب من الشعوب، ولا أمة من الأمم من خصوصية التعدد في الثقافات والأديان والآراء والأفكار وغيرها من الأمور. والذي يبدو من ظاهر جملة من الآيات القرآنية ومن السنة النبوية الشريفة وسيرتها أن بناء المجتمعات والأوطان يعتمد على الأمور التي تشترك فيها جميع المكونات في المجتمع والوطن وهي التي تكون منشأ حقوق الأفراد والجماعات المتواجدة فيه، وهذا ما ينسجم مع اعتماد الهوية الوطنية التي يحملها الفرد بصفته مواطنا يشترك معه في هذه الصفة كل الأفراد والجماعات ذات الروابط المشتركة غير الدينية المختلفين فيها، وهي التي تكون منشأ ثبوت الواجبات والحقوق له ولهم وعليه وعليهم تجاه الوطن والمجتمع، ولا نرى في الإسلام كتابا وسنة ما يتنافى مع اعتماد المواطنة قاعدة في نظام الحكم والإدارة وتوزيع الحقوق والواجبات بعدالة ومساواة بين المواطنين مع اختلاف هوياتهم الدينية والثقافية بل يعد اعتماد هذا الأمر موافقا لقاعدة العدل والإنصاف المستفادة من آيات عديدة. ويبدو أيضا أن هذه المساواة في منشأ الخلق كانت أساسا في تشريع المساواة في الحقوق الإنسانية التي ارتكزت عليها أحكام العدالة".
أضاف: "إذا كانت المواطنة تنطبق على المواطنين دون تفاوت بينهم فإن هذا يعني اكتساب الجميع للهوية الوطنية، وهي تستدعي المساواة في الحقوق المنبثقة من الإنتماء الوطني باعتبارها مصدرا لها تندمج فيها الحقوق الإنسانية، وتقع موردا لتطبيق تلك الآيات التي أقرت عدم التفاوت بين شعب وآخر فضلا عن فرد على آخر داخل الشعب الواحد والوطن الواحد. فأنت عندما تقول (الآخر) أو (الغير) أو (غيري) فهذا يعني وجود المختلف عنك وهو ليس بالضرورة المختلف معك وإن اختلفت الآراء والأفكار والمعتقدات، فأحدكما يساويه الآخر في المواطنة والإنسانية اللتين تترتب عليهما المساواة في الحقوق والواجبات وقاعدة العدالة كما تقدم ذلك من الآيات السابقة الذكر. وعندما تقول "أعيش مع غيري" أو "غيري يعيش معي" فهذا يعني وجود شريك لك في العيش والوطن وفي ما يستتبعه ذلك من حقوق وواجبات، وعندئذ يخاطبك الحديث: أحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره لغيرك ما تكره لنفسك. ولذلك يمكن القول أن وثيقة المدينة المنورة كانت عقدا اجتماعيا نظر إلى الذين يعيشون معا على أنهم متساوون في المواطنية ومستلزماتها بعيدا عن خصائص الدين والمعتقد. ويؤيد هذا المعنى الذي تقدم من المساواة ما ورد في السنة النبوية الشريفة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (الناس سواسية كأسنان المشط) و (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله) و(لا فضل لأحمر على أصفر ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فإن المواطنين قد يختلفون في أصول أعراقهم وأديانهم وانتماءاتهم لكن المشترك بينهم في الوطن الواحد هي المواطنية وهم فيها على حد سواء. وبعبارة أخرى إن هذه النصوص وأمثالها مع شمولها ودعوتها لإزالة الفوارق بين شعب وآخر لا يعيشان معا وبين أمة وأخرى بعيدة عنها في الجغرافيا، ولا توجد بينهما روابط التاريخ والوطن وأواصر القربى فكيف بالشعب الواحد والأمة الواحدة التي يعيش أبناؤها بعضهم مع البعض الآخر في وطن واحد؟ فإن اعتماد ما يجمعهم- وهي المساواة في المواطنة- في هذه الحالة يكون هو الأولى بالاعتماد والاتباع في نظام الحياة معا والعلاقات المشتركة".
وتابع: "المواطنون هم المعبر عنهم في الفقه السياسي بالرعية كما جاء في جملة من النصوص الدينية منها: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته...) و (كل سائس إمام).. ومما يكشف عن إطلاق كلمة الرعية على المواطنين على حد سواء وإن اختلفت انتماءاتهم الدينية ما ورد في كتاب الإمام علي (ع) إلى مالك الأشتر عندما ولاه على أهل مصر وفيهم الأقباط غير المسلمين (أشعر قلبك المحبة للرعية واللطف بهم والعطف عليهم ولا تكونن سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان- أي الرعية، المواطنون- إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) وقوله: (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية). ولا شك بأن العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات الوطنية هي الأجمع لرضى الرعية وهم المعبر عنهم بلغة العصر ب(الرعايا) و(المواطنين) وهذا الذي تقدم يعني أن الحقوق المنبثقة عن الشراكة في العيش والوطن لا يتم توزيعها على أساس ديني وطائفي وإنما على أساس من الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع وعلى أساس من الشراكة الوطنية التي جعلت منهم رعية واحدة يستحقون الرعاية والحماية بلا تفاوت وهذا ما نعنيه ونقصده بالمواطنة التي يقوم عليها النظام السياسي الذي يساوي في تشريعاته وأحكامه وقوانينه بين المواطنين مع حق احتفاظ كل فرد أو جماعة بالخصوصيات الدينية والثقافية، فإنها لا تتنافى مع العقد الإجتماعي".
وقال: "نشرا لثقافة التعايش السلمي وتعزيزا لسلامة العلاقة داخل المجتمع فقد تعددت النصوص الدينية الدالة على ترسيم نهج أخلاقي يعتمد على منظومة القيم والمبادئ التي تبعد الإختلاف عن دائرة الخلاف والنزاع، وتهيئ المناخ لسلامة العلاقات الداخلية في المجتمع كما جاء في بعضها عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (أفضل المؤمنين إسلاما من سلم المؤمنون من لسانه ويده وأفضل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا) و(أفضل المؤمنين إيمانا أحاسنهم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون)، ثم قال (لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه وحتى يأمن جاره بوائقه) و(أفضل الإسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده)، و(المهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه) و(المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم). ومن الأحاديث التي تؤكد اهتمام الشريعة بسلامة العلاقات الداخلية ما ورد عن النبي(ع): (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) وفي حديث آخر عن أبي أيوب الأنصاري: (قال ألا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا) وفي نصوص أخرى (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) والنصوص بهذا المعنى كثيرة".
وختم الأمين: "من الواضح أن هذه التوجيهات والإرشادات لا تخص علاقات المسلمين ببعضهم، بل هي شاملة لكل مكونات المجتمع من المسلمين وغيرهم باعتبار ورود كلمة الناس، وهذه الآيات المتقدمة التي أشرنا إليها مع نصوص السنة والسيرة تؤسس إلى فقه جديد في حقوق المجتمع وواجبات أفراده، يقوم على قاعدتي الإنسانية والمواطنية ويتجاوز فقه الأقليات الذي خضع استنباطه لظروف كانت سائدة في زمن النصوص وفي فترات لاحقة من العهود السابقة التي اكتظت بالحروب والصراعات التي تزرع بين الناس الفرقة والإنقسامات المنافية لمقاصد الشريعة في إقامة العدل والسلم في المجتمعات، وقد ذهبت تلك الظروف كما ذهبت ظروف وأسباب أحكام سبي النساء والعبيد والإماء. ونحن نرى أن ما ذكره الفقهاء في الأبواب الفقهية المختصة بأحكام الأقليات أصبحت بحكم المنسوخة، فلا تختلف حقوق الأقليات عن حقوق الأكثريات، وقد انتهى مفعول تلك الأحكام وأسباب البحث عنها، كما يجب أن ينتهي البحث في أحكام العبيد والإماء والسبايا لأنه لم يعد لها من موضوع في حياة المسلمين وانتهت بانتهاء ظروفها، ولذلك فإننا ندعو المرجعيات الدينية إلى التجديد وإعادة النظر في تلك الأحكام إنطلاقا من تلك الآيات المحكمات التي تنص على العدل والمساواة والحاكمة على كل الفتاوى والروايات".
====================